تنويه: هذه مقالة رأي قصيرة لا تستند على مراجع علمية.
لا يخفى علينا (كمختصين) أن للمختص النفسي —بمسماه الواسع الذي يشمل المختص العيادي وغير العيادي— أدوارًا أكاديمية/بحثية، ومهنية/ممارستية، وإدارية. هذه الأدوار قد تكون مجتمعة أو متفرقة؛ بمعنى أن الأخصائي النفسي قد يكون باحثًا وممارسًا في آن واحد. تلك الأدوار شائعة ومعروفة غير أن هنالك دوران أساسيان آخران قل الحديث عنهما وغفلهما الكثيرون؛ عن دور الأخصائي النفس كمناضل ومسوق للتخصص والمهنة أتحدث.
علم النفس في السعودية بمجالاته المتنوعة يواجه تحديات لا حصر لها. فالمتخصصون يقفون بين التحديات التعليمية والتدريبية كقلة البرامج الأكاديمية، وفرص التدريب، وقلة المختصين، وضعف المدخلات التعليمية، وانعكاسها على المخرجات. ومن جهة أخرى، التحديات المهنية والوظيفية كشح الوظائف الذي ربما نتج عن عدم وعي الجهات والمنظمات بدور المختصين بعلم النفس. أضف إلى ذلك، افتقار المجتمع بمختلف أطيافه للفهم الصحيح والواسع لعلم النفس كتخصص محوري لا تكاد تستغني عنه ميادين الحياة قاطبة.
إن علم النفس لا يعنى بالاضطرابات النفسية وحسب، بل بالصحة والرفاه النفسي، والإنتاجية، والموهبة، والإبداع، والإدارة، والتنظيم، والقيادة، والدافعية، وغيرها الكثير مما لا حصر له. هنالك فرصة كبيرة أن كل من تعرفهم درسوا أو سيدرسون شيئًا انتجه علم العلم النفس في تخصصاتهم. علم النفس يؤثر على جوانب عديدة من حياة الناس الفردية، والأسرية، والمهنية. فهو يساعد الأفراد ليس في اعتلالهم، وإنما في أفضل حلاتهم الصحية، ليحققوا اهدافهم ويحصدوا نجاحاتهم. علم النفس يساعد المصانع والمنتجين كي يصنعوا آلات، وأجهزة، وتطبيقات سهلة الاستخدام. ويساعد المنظمات في تحفيز الموظفين، وإحقاق العدالة والمساواة، لتحقيق الرضا الوظيفي ورفع الدافعية للعمل، ويساعدهم على توظيف الشخص المناسب في المكان المناسب. علم النفس يساعد على تعزيز صحة المجتمعات من خلال تصميم البرامج التوعية والسياسات التي تضمن الرفاهية للجميع. أستطيع أن اسرد سطورًا عما يقدمه علم النفس، ولكن أظن أن الفكرة اتضحت— علم النفس والمتخصصين فيه يقومون بالكثير! ولذلك، حان الوقت لنقول للجميع عن دورنا كمتخصصين، وما نحن قادرون على القيام به. حان الوقت لأن نناضل لتخصصنا، ولمهنتنا، وكل تلك المعرفة التي جنيناها.
النضال من المفاهيم الشائعة في الأوساط السياسية والحزبية، وبغض النظر عن سياقه الشائع، يُعَرف على أنه الدفاع، والمحاماة، والكفاح، والجهد (المعاني؛ عمر، 2008). أن تناضل لعلم النفس هو أن تدافع عنه، وأن تظهر مفهومه الغائب لا قولًا فحسب وإنما فعلًا يصور هذا المفهوم. أن تختار التخصص في علم النفس، وأن تكتب وتنشر بحثًا قيمًا فيه نضال. أن تتحدث فيه بما تفقه لا أكثر، وأن تخبر من تعرف عن ماهيته نضال. أن تمارس علم النفس وفق ضوابطه الأخلاقية نضال. أن تقول للمختص المخطئ أنه أخطأ، وأن تشيد بالعمل الحسن نضال. أن تعترف بخطئك نضال. أن تناضل لعلم النفس هو أن تحمي هويته، وأن تكون جزء من تقدمه.
بظني، أن التسويق لعلم النفس يعتبر أيضًا من النضال السابق ذكره. هنالك سبل كثيرة للتسويق، ولعل الكتابة والنشر في مواقع التواصل الاجتماعي، والصحف، والمدونات الشخصية والمشتركة، من أبرزها. كما أن الظهور المرئي سواءً عبر الوسائل التقليدية كالتلفاز، أو الحديثة كاليوتيوب يعتبر شائع في وقتنا الحالي. وفي الآونة الأخيرة، هنالك توجه كبير للبث الصوتي أو ما يعرف بالبودكاست. أضف إلى ذلك، الوسائل التقليدية مثل الدورات، والورش، والمحاضرات، وإن كانت لا تغطي شريحة واسعة من المجتمع، إلا أنه يمكن تسجيلها ونشرها إلكترونيًا. كل ذلك من الوسائل الفعالة التي يمكن توظيفها في التسويق لمختلف مواضيع علم النفس. ومن تلك المواضيع ما ذكره Davey (2020) في محاضرته التي كانت بعنوان: “لنقرب علم النفس للناس، ولكن كيف نجعلهم ينصتون؟” أسردها مترجمةً بتصرف:
- فسر السلوكيات والخبرات والأحداث وفق الشواهد العلمية.
- قدم حلول لمشكلات ملحة وعاجلة (بناءً على الأدلة العلمية):
مشكلات اجتماعية مثل، الإرهاب؛ العنصرية؛ الفقر؛ توفير الرعاية الصحية؛ العنف والجريمة.
مشكلات شخصية مثل، الضغوطات اليومية؛ العلاقات؛ الأبوة والأمومة؛ الثقة بالنفس؛ ظروف العمل؛ المشاكل المالية؛ التنمر؛ تعزيز الرفاه (الصحي والنفسي)
رجاءً توقف عن الكتابة حول الاضطرابات النفسية كما هي واردة في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM) وابحث عن طرق أفضل كالتوعية والتدريب بالمهارات والسلوكيات التي تساعد على حل المشكلات ومواجهة ضغوط الحياة والتعامل معها بفاعلية [هذه إضافة مني ولم يوردها Davey في محاضرته].
بلا شك أن قائمة المواضيع تطول بكثرة المشكلات والسلوكيات والظواهر والحوادث البشرية. وكلما كتبنا عن مواضيع تصب في صميمي اهتمامنا وتخصصنا (أعني التخصص الدقيق في علم النفس)، زادت فرص وعي ومعرفة الناس بهذه المواضيع، وزادت فرصنا بأن تتواصل معنا الجهات والمنظمات لكي نساعدهم في هذه المواضيع أيضًا. إنها عملية تبادلية، فنحن نسوق المعرفة والتخصص، وهذه المعرفة تسوق لنا.
الكتابة والحديث عن التخصص من الطرق المنهجية التي لا غنى عنها، ولكن لعلي أعرج على طرق أخرى تعتمد أكثر على مهاراتنا الشخصية والبين شخصية في التواصل، وتكوين المعارف والعلاقات، والإقناع. هذه المهارات ليست ترفًا، وإنما حاجة ملحة لكل مختص في علم النفس. تساعد وتسهل مثل هذه المهارات الناعمة الحصول على فرص لا يمكننا بأي حال من الأحوال الحصول عليها ونحن متقوقعين، لا نعرف أحد، ولا أحد يعرفنا. كما أن العلاقات الاجتماعية الجيدة تسهل الوصول لكيانات مؤثرة وقادرة على إحداث تغيير بشأن التخصص والمهنة والمجتمع بأسره. تجدر الإشارة إلى أنني لا اتحدث عن المحسوبيات والمحاباة وإنما عن قوة اجتماعية ناعمة توصل صوت التخصص والمختصين لمن يجب أن يستمعوا له.
ليس من الخطأ أن تسوق لتخصصك ولنفسك كمتخص، الخطأ أن يكون تسويقك متاجرة رخيصة. كمتخصين نحمل على عاتقنا أمانة العلم، وشرف المهنة، وتحكمنا أخلاقياتنا المهنية. لا أخلاق لمن يتاجر بمعاناة الناس، ولا أخلاق لمن يقدم مصلحة نفسه على مصلحة الآخرين. فإذا أخذنا بعين الاعتبار ما سبق، فإننا ملزمون بأن نسوق لتخصصنا، وأن نظهر جوانبه التي تخدم المجتمع بمختلف ميادينه. كل ذلك لكي نرتقي به لمصاف التخصصات التي حظيت بالاهتمام والتمكين في مجتمعنا. لكي نأخذ حقنا في العمل في الوظائف التي هي من صميم تخصصنا، ونحدث وظائف غائبة طالما احتاج لها المجتمع، ونغير ونطور وظائف وجودها لم يعد ذا جدوى.
لنعمل سويًا كمتخصصين، ولنضع حدًا لمن لا ناقة ولا جمل له في تخصصنا، ولنوصل صوتنا للمسؤول وللجميع، ولنخبرهم أن علم النفس لها.
عمر، أحمد. (2008). معجم اللغة العربية المعاصرة. مصر: عالم الكتب.
المعاني. (n.d.). تعريف ومعنى نضال في معجم المعاني الجامع – معجم عربي عربي. https://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D9%86%D8%B6%D8%A7%D9%84
Davey, Graham. [BPSOfficial]. (2020, Feb 24). Professor Graham Davey – Let’s take psychology to the people… but how do we make them listen? [Video]. YouTube. https://youtu.be/KGaCxjvtW68
يعطيك العافية مقال اكثر من رائع👏🏻💙
الله يعافيك نوادر 🌹
جميل جدا ما طرحت في حق علم النفس، اذ ان الوجه الاخر (الإيجابي) الذي قدمت له وتحاول ان تبرزه قد أحدث نقله نوعية في توجهات علم النفس في منتصف الثاني من القرن العشرين على ، فبدلا عن الاهتمام بمعالجة المعوقات والسلبيات والامراض العقلية ، اتجه العلماء الى الاهتمام بالايجابيات والتحفيز والدافعية والثقة بالنفس، فظهر ما يسمى بعلم النفس الإيجابي ، وقد مهدت كتابات luthans في علم الادارة لتخصص جديد وهو السلوك التنظيمي الإيجابي المستند على علم النفس الإيجابي والذي بدوره مهدت لظهور رأس المال النفسي المرتكز على الكفاءة الذاتية والامل والتفاؤل والمرونة ..
سلامتكم
عصام المشايخي
فعلًا هنالك توجهات جديدة في علم النفس، وعلم النفس واسع ويدرس مواضيع متنوعة ولذلك نرى له مجالات عدة.
شكرًا عصام🌹
سَلِم الفكر وسلِمت الأنامل أ.عمر 👏🏼👍🏼
شكرًا للطفك هيا🌹
و كأنك تحكي عن ما في خاطري! بالفعل نحن بحاجة لهذه الوقفة مع أنفسنا و هذا الحراك الصحيح الممنهج، مقال مليئ بالتحفيز و الأفكار المشجعة و التي حتى لو لم تكن جديدة كلياً لا أننا بحاجة لها لتظهر هكذا جلية أمامنا.
بوركت يمينك.
لغة علمية عميقة متفائلة ، تحرض على الانطلاق نحو ما يجب أن يكون.
ورغم فخامة المقال مبنى ومعنى تجده يتسلل سريعًا للضمير المهني للمختصين ويشعرهم بمسؤوليتهم العلمية.
شكرًا جزيلا أستاذ عمر على ألقك العلمي
للاسف هناك معضلات في هذا تطبيقات هذا العلم الرائع .
وهذا قد يعود الي لطبيعة الدول النامية ، وجود العديد من التحديات امام المختصين . لا يوجد حل الا بصنع علماء النفس ، ويصنع المتخصص بعد سنوات من التدريب والبحث. غير هذا لا يوجد اي بصيص امل
بوركت جهودك .. مبدع كعادتك 🌺
كل اخصائي نفسي هو “مناضل” منذ الحظه الاولى التي اختار فيها هذا التخصص .. ولا زلنا مناضلين في الارجاء الاجتماعيه والميادين الاكاديمه .. !