You are currently viewing الثقافة التنظيميّة: من الفهم إلى القياس

الثقافة التنظيميّة: من الفهم إلى القياس

ليست الثقافة التنظيميّة مفهومًا نظريًّا، وإنّما محرِّكًا لتحقيق نجاحات ملموسة ومبهرة، فقد وجدت شركة ساب للبرمجيّات (SAP) أنّ ارتفاعًا بنسبة 1% في مؤشّر الثقافة يُنتِج (90-100) مليونًا في الأرباح التشغيليّة[9]، وقد ارتفعت أيضًا القيمة السوقيّة لشركة الاتِّصَالات السعودية (STC) من 69 مليار إلى 200 مليار ريال في غضون ست سنوات منذُ بداية مشروع التحوّل الثقافيّ عام  2012 [8]. أمّا بالنسبة لمايكروسوفت، فقد ارتفعت قيمتها السوقيّة بما يقارب 516% منذ بداية تحوّل الشركة الذي شمل الثقافة عام 2014. العامل المشترك بين هذه الشركات الناجحة هو اهتمامها بالثقافة التنظيميّة.

تشير الدراسات إلى أنّ الثقافة التنظيميّة القويّة والصحّيّة تؤدّي دورًا محوريًّا في تعزيز أداء المنظّمات على مختلف المستويات؛ إذ كشفت أبحاث “قالوب” و”ماكنزي” أنّ تحسين الثقافة التنظيميّة يمكن أن يقود إلى النتائج التالية[3،4،7]:

  • زيادة التفاعل مع العملاء بنسبة تصل إلى 138% خلال خمس سنوات.
  • استقطاب أعلى 20٪ من الكفاءات في السوق.
  • ارتفاع صافي الأرباح بنسبة 85% خلال خمس سنوات.
  • نموّ القوى العاملة بنسبة 25% خلال ثلاث سنوات.
  • ارتفاعٍ بمقدار 50 نقطة في درجة الاندماج الوظيفيّ خلال ثلاث سنوات.
  • توصية ما يقارب نصف موظّفي الشركات ذات الثقافة الصحّيّة بجهة عملهم، والاستمرار في العمل فيها.
  • أداء ماليّ أفضل بثلاث مرّات مقارنةً بالمنظمات ذات الثقافة غير الصحية.

تُظهر هذه الأرقام التأثير الكبير للثقافة التنظيميّة على الأداء العام للمنظّمات، ما يؤكّد على أهمّيّة الاستثمار في بناء ثقافة تنظيميّة صحّيّة تضمن استدامة النجاح، وتحقيق النتائج الماليّة القويّة.

مفهوم الثقافة التنظيميّة:

مفهومُ الثقافة التنظيميّة شائكٌ وفضفاضٌ ومَحلٌّ للاختلاف؛ مما يصعّب على المنظّمات فهمه، ومن ثمّ محاولة قياسه. يَنتج هذا التحدّي عن تعدّد التعاريف والنظريّات والمنهجيّات والمقاييس العلميّة، بالإضافة إلى المقاييس التجاريّة التي قد تسطّح مفهوم الثقافة إلى الدرجة التي تُخلّ به تمامًا.

ولكن، من حسن الحظّ، نتج عن التقدّم العلميّ في أبحاث الثقافة فهمٌ أدقّ واتّفاق أكبر على ماهيّة هذا المفهوم. إن أحد أبرز من قدّم مفهومًا شموليًّا للثقافة نابعًا عن سنوات من البحث العلميّ هو عالمُ علم النفس التنظيميّ وخبير الثقافة (إدقر شاين) [10]؛  إذ يرى أنّ الثقافة تنقسم إلى ثلاثة مستويات تتدرج من كونها ظاهرة، يمكن ملاحظتها، إلى غير ظاهرة، يصعب ملاحظتها (أنظر شكل 1).

شكل 1: مستويات الثقافة حسب شاين. مستنسخ ومعاد إعداده بتصرف.
  1. العناصر الملحوظة والمستشعرة (Observable Artifacts): تعدّ سهلة الملاحظة وصعبة الفهم والتفسير، وتشمل جوانب عديدة، منها: الممارسات، تصميم البيئة المادّيّة، اللغة المستخدمة، التقنيّة والمنتجات، الإنتاجات الفنّيّة، الأسلوب الذي يتجلّى في اللبس والآداب وإظهار المشاعر، القصص والأساطير، الوثائق والمستندات التي تنظّم العمل، الطقوس والمناسبات.
  2. المعتقدات والقيم المعلنة (Espoused beliefs & Values): يصعب معرفة مدى انعكاسها على سلوك الأفراد والمنظمة، وهي القيم التي تعلنها الشركة ويُؤيّدها القادة، مثل: الجودة، والابتكار، والمرونة. تُظهر الكثير من الشركات ثقافتها من خلال القيم المعلنة، وهي على ثلاثة أنواع: قيم ناتجة عن اعتقادات راسخة وموجِّهة للسلوك، وقيم ناتجة عن أيديولوجيّة وفلسفة الشركة، وقيم تمثّل تطلّعات الشركة.
  3. المعتقدات الأساسيّة (Basic Assumptions): لا يمكن ملاحظتها بسهولة، ويصعب تغييرها، وهي تمنح الأمان؛ كونها تُعرّف بما يجب الانتباه له، وكيفيّة تفاعل الناس عاطفيًّا، والأفعال الواجِبة في مختلف المواقف، ويمكن تسميتها بـ”النظريّات المستخدمة”. تبدأ المعتقدات عادةً كقيم معلنة، وتتحوّل مع الوقت إلى ضمانات تأخذ دور المعتقدات، إلّا أنّها قد تبدأ كممارسات أيضًا، ومن ثمّ تتحوّل إلى معتقدات وثوابت مع الوقت.
 

تعريف الثقافة وفق المعتقدات الأساسيّة

يعرّف إدقر شاين الثقافة من أدنى مستوياتها وأعمقها، أي من خلال المعتقدات الأساسيّة؛ كونها الجذور المفسِّرة للمستويات العليا من الثقافة، فالثقافة إذًا من هذا المنظور العميق:

“نمط مشترك من المعتقدات الأساسيّة (معتقدات وقيم عميقة) التي تعلَّمتها جماعة ما، وأظهرت جدواها في حلّ مشكلاتها الداخليّة والخارجيّة، وبذلك عُدَّت (المعتقدات) صحيحة وصالحة كفاية لتُنقل إلى المنضمّين الجُدد باعتبارها الطريقة الصحيحة للإدراك، والتفكير، والشعور بالمشكلات ذات العلاقة”.

الثقافة بحرٌ لا ساحل له

إن الاستنتاج الأوّليّ والمنطقيّ المُستَنتَج من هذا المنظور الشامل للثقافة أنّ الثقافة بحر لا ساحل له، فهو مفهومٌ واسعٌ قد يصعب بمكان أن نوثّق كلّ عناصره، إلّا أنّ هذا لا يعني أنّنا لا نستطيع توثيق السمات المهمّة والبارزة والمؤثّرة على فاعلية المنظّمة، إذ تنطبق على الثقافة القاعدة المنطقيّة: ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه.

 كيف نقيس الثقافة التنظيميّة؟

إذا كانت الثقافة بحرًا لا ساحل له، فكيف نستطيع إذًا قياسها وتحديد ملامحها؟ تأخذنا محاولة الإجابة عن هذا السؤال إلى ما يعرف بالفاعليّة التنظيميّة (organizational effectiveness). يشير هذا المفهوم إلى مدى فاعليّة المنظّمة أو قدرتها على تحقيق المخرجات المطلوبة أو المحدَّدة، أي مدى امتلاكها للمقوّمات الكافية لتحقيق الغاية من وجودها. على سبيل المثال، قدرتها على تحقيق الأرباح، وتقديم منتجات مبتكرة، والمنافسة والنموّ والتوسّع في المجال[2].

أحد أهمّ مقوّمات المنظّمة لتحقيق فاعليّتها هي ثقافتُها، ولكن بدلًا من محاولة قياس كلّ شيء في الثقافة، يجب التركيز على قياس السمات والعناصر الثقافيّة الأكثر تأثيرًا على الفاعليّة التنظيميّة. إذًا، لنتّفق أنّ هنالك جوانب ثقافيّة أكثر أهمّيّة وتأثيرًا على نشاط المنظّمة من غيرها؛ ما يبرِّر قياسها والتركيز عليها في عمليّة التغيير الثقافيّ.

 قياس الثقافة التنظيميّة

سعى العديد من العلماء والباحثين لإجراء العديد من الأبحاث التي تختبر السمات المشتركة في المنظّمات الأعلى فاعليّة وأداءً حول العالم بطريقة كمّيّة، أي بالاستعانة بالاستبانات والتحليلات الإحصائيّة المعقّدة. من أمثلة هذه الدراسات أبحاث نموذج عالم علم النفس التنظيميّ (دينسون)، الذي تعرّف إلى 12 جانبًا ثقافيًّا، صُنِّفوا تحت أربع سمات ثقافيّة أساسيّة، وهي: الرسالة، والتكيّف، والاتّساق، والمشاركة [1،2،5،6].

  1. الرسالة (Mission): تمتلك المنظّمات الناجحة إدراكًا واضحًا للغاية والتوجّه، ما يحدّد الأهداف التنظيميّة الاستراتيجيّة، ويعكس رؤية واضحة لكيفيّة تحقيق هذه الأهداف. عندما تتغيّر رسالة المنظّمة الأساسيّة، يحدث تغيير في جوانب أخرى من ثقافة المنظمّة.
  1. التكيّف (Adaptability): غالبًا ما تجد المنظّمات التي تتمتّع بتكامل وثبات داخليّ قويّ صعوبةً في التغيير، لكنّ المنظّمات القابلة للتكيّف تتعلّم من عملائها، وتستفيد من أخطائها. تتمتّع هذه المنظّمات بالقدرة على التكيّف مع التغيّرات، فهي تُحدث تغييرات مستمرّة في أنظمتها لتطوير قدراتها الجماعيّة لتقديم قيمة أكبر لعملائها.
  1. المشاركة (Involvement): تُمكِّن المنظّمات الفعّالة موظّفيها من خلال بناء فرق العمل، وتطوير قدرات الموظّفين على جميع المستويات. يشعر الموظّفون بأنّ لديهم حصّة في المنظّمة، وأنّهم يملكون جزءًا من القرارات التي تؤثّر على عملهم، فيشعرون بأنّ عملهم مرتبط مباشرة بأهداف المنظّمة.
  1. الاتّساق (Consistency): تعتمد المنظّمات الفعّالة على ثقافات تنظيميّة قويّة ومتناسقة، يكون السلوك فيها مبنيًّا على مجموعة من القيم الأساسيّة التي تُمكّن القادة والموظّفين من الوصول إلى اتّفاق حتّى عند وجود وجهات نظر متنوّعة. يُعدّ هذا النوع من الاتّساق مصدرًا قويًّا للاستقرار والتكامل الداخليّ، ويَنتج عن عقليّة مشتركة ومستوى عالٍ من الالتزام.

وجدت أبحاث ديسنون وآخرين أنّ هناك علاقة بين هذه السمات والفاعليّة التنظيميّة، فقد وجدوا أنّ سمتَي الرسالة والاتّساق قادرتَان على التنبّؤ بالربحيّة، وأنّ سمَتَي المشاركة والتكيّف قادرتان على التنبّؤ بالابتكار ورضا العملاء، وأنّ سمَتي التكيّف والرسالة قادرتان على التنبّؤ بالنموّ والحصّة السوقيّة والابتكار، وأنّ سمتَي الاتّساق والمشاركة قادرتان على التنبّؤ برضا الموظّفين والجودة (أنظر شكل 2).

شكل 2: مخطّط دائريّ يستعرض نتائج مقياس دينسون للثقافة، نقلًا عن شركة باسقات للاستشارات.

تُقاس هذه السمات بالاستعانة باستبانة مكوَّنة من 48 سؤالًا تُحلَّل وتُستعرَض في تقرير على شكل مخطّط دائري يوضِّح أداء المنظّمة في المؤشّرات الاثني عشر، المقسّمة على السمات الأربعة الرئيسيّة (أنظر شكل 2). تُقدَّم النتائج على شكل رتب مئويّة معياريّة، توضّح مستوى الثقافة التنظيميّة للمنظّمة مقارنةً بالشركات الأخرى حول العالم. تشير تجارب دينسون إلى أنّ لدى معظم الشركات الناجحة ثقافة موازنة بين السمات الأربعة الرئيسيّة: الرسالة، والتكيّف، والمشاركة، والاتّساق.

نموذج دينسون ليس النموذج الوحيد أو الأفضل بالضرورة، إذ توجد عدّة نماذج كمّيّة مدعومة بالأبحاث قد تكون أكثر ملاءمة اعتمادًا على الهدف من القياس. لذا، يُنصح دائمًا بتحديد الغرض من القياس، ومن ثمّ مراجعة النماذج المتاحة واستشارة المختصّين لاختيار النموذج الأنسب.

من المهمّ ملاحظة أنّ معظم الشركات الاستشاريّة لا تقدّم أدلّة تشير إلى فاعليّة أدواتها باللغة العربيّة، أو فاعليّة الأبحاث في المجتمع المحلّيّ، بل تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الأبحاث في المجتمعات الغربيّة. يمثّل هذا أحد أهمّ نقاط القصور في المقاييس المتاحة باللغة العربيّة عمومًا. لقد تناولت هذا الموضوع في منشور مستقلّ.

تجدر الإشارة إلى إمكانيّة قياس الثقافة التنظيميّة بالاستعانة بالمنهجيّات النوعيّة أيضًا، مثل: الملاحظة، والمقابلة، وجلسة التركيز. لكلّ منهجيّة من هذه المنهجيّات (الكمّيّة والنوعيّة) نقاط قوّة ونقاط ضعف، إلا أنّ الجمع بينها يقدّم قياسًا شموليًّا ودقيقًا للثقافة.

ختامًا، لا يختلف أحد على أهمّيّة الثقافة التنظيميّة ودورها الجوهريّ في تحقيق النجاح والاستدامة، وما يبدو من تعقيد وصعوبة في فهم الثقافة نابعٌ من عمقها وتعدّد أبعادها. يمثّل التركيز على الفاعليّة التنظيميّة المنهج الأمثل لقياسها، إذ يتيح لنا تحديد الجوانب الأكثر تأثيرًا على تحقيق الأهداف الاستراتيجيّة والنجاح وقياسها. فهم وقياس الثقافة هي المرحلة الأولى في عمليّة التغيير الثقافيّ، يتبعها مراحل عديدة، أبرزها: فهم التحديات الحالية، وتحديد الثقافة المنشودة، وبناء المبادرات وتنفيذها، ومن ثم إعادة القياس والتقييم.

[1] Denison, D. (1990). Corporate culture and organizational. New York: Wiley. Dike, P.(2013). The impact of workplace diversity on organizations. Dobbin, F., & Jung, J.(2010). Corporate board gender diversity and stock performance: The competence gap or institutional investor bias. NCL Rev, 89, 809.
[2] Denison, D. and Mishra, A. (1995). Toward a theory of organizational culture and effectiveness. Organizational Science, 6, 204-223.
[3] Gallup. (n.d.). Culture wins: How top companies attract top talent. Gallup. https://www.gallup.com/workplace/237368/culture-wins-attracting-top-candidates.aspx
[4] Gallup. (n.d.). What is workplace culture? And why does it matter? Gallup. https://www.gallup.com/workplace/229832/culture.aspx
[5] Introduction to the Denison model. Denison Consulting. https://denisonconsulting.com/wp-content/uploads/2019/08/introduction-to-the-denison-model.pdf
[6] Kabigting, J., Loures, L., & Brooks, D. (2019). The Denison organizational culture survey (DOCS): A culture measurement critique. Claremont Graduate University.‏
[7] McKinsey & Company, People and Organizational Performance Practice.
[8] McKinsey & Company. (n.d.). Introduction to organizational health index.
[9] Purcell, J. (2019, October 28). Case study: SAP shows how employee well-being boosts the bottom line. Forbes. https://www.forbes.com/sites/jimpurcell/2019/10/28/case-study-sap-shows-how-employee-wellbeing-boosts-the-bottom-line/?sh=58d6ec5f32a4
[10] Schein, E. H. (2010). Organizational culture and leadership (Vol. 2). John Wiley & Sons.‏

Omar Albaraidi

مختص الثقافة التنظيمية وتجربة الموظف. حاصل على درجة الماجستير في علم النفس الصناعي والتنظيمي. تتركز اهتماماته في جلب مفاهيم ونظريات علم النفس إلى ميدان العمل لتطوير ورفع كفاءة المنظمات والعاملين فيها.. إقرأ المزيد

اترك تعليقاً