You are currently viewing على مؤشر الثقافة المؤسسية السلام!

على مؤشر الثقافة المؤسسية السلام!

هل يمكن أن يؤدي قياس الثقافة المؤسسية لإفسادها؟

يقول صديقي، الذي يعمل في شركة مهتمة ببيئة وثقافة العمل، إننا بمجرد وضعنا لدرجة الثقافة كأحد المستهدفات على المديرين لاحظنا تحسنًا واضحًا في الثقافة— أصبح جميع القادة يأخذون الثقافة بجدية أكبر ويعملون بتكامل لتحقيق المستهدف.

تساءلت كثيرًا عن عبارة “يعملون بتكامل”، هل المقصود هنا أنهم كانوا يقومون بتنفيذ مبادرات وسلوكيات تساهم في تعزيز ثقافة عمل صحية؟ اكتشفت لاحقًا أن التكامل هو ضغط متبادل —غير مقصود — لتحسين الدرجة؛ إذ يبدأ الضغط من مجلس الإدارة مرورًا بالرؤساء، ومديري العموم، ووصولًا إلى أصغر موظف. النتيجة، درجات مرتفعة غير صادقة على مقياس الثقافة المؤسسية.

هل تحسنت الثقافة؟ لا، وإنما تحسنت إجابات الناس على المقياس!

عندما يتحول القياس إلى هدف

هذه الظاهرة ليست جديدة، ولا تقتصر على الثقافة المؤسسية، فهي ظاهرة تُدرس في علم النفس تحت مفهوم التفاعلية (Reactivity)، والذي يشير إلى أن الناس قد يغيرون استجاباتهم نتيجة خضوعهم للتقييم، والملاحظة، والقياس، وليس لأن سلوكهم تغير فعليًا!

هذه الظاهرة ملاحظة أيضًا بشكل مختلف في الاقتصاد ومعروفة بقانون قودهارت (Goodhart’s law)، حيث تشير العديد من الدراسات والشواهد إلى أن أي مؤشر يصبح مستهدفًا يبدأ بفقدان مصداقيته أو كونه مقياسًا دقيقًا.

كارثة مصرف ويلز فارغو

أحد أبرز الشواهد في هذا الصدد هو ما حصل في مصرف ويلز فارغو حيث أقدم موظفي المصرف على فتح ما يتجاوز 3.5 مليون حساب وهمي بأسماء العملاء من دون موافقتهم، وذلك بهدف الحصول على المكافآت المرتبطة بتحقيق المستهدف.

الأكيد أن نوايا المصرف كانت حسنة، إذ كانت استراتيجيته تركز على بناء العلاقات طويلة المدى مع العملاء، لكن مؤشر القياس المستخدم كان هو المشكلة: عدد الحسابات المصرفية والبطاقات الائتمانية للعملاء!

تشير التحليلات إلى عدة أسباب لهذه الكارثة التي حلت بالمصرف وأدت لخسائر طائلة، من أبرزها:
– وضع مستهدفات عالية جدًا.
– سياسة الحوافز التي تركز بشكل كبير على تحفيز من يفتح حسابات أكثر للعملاء.
– الضغط المباشر وغير المباشر والتهديد للموظفين!

النوايا الحسنة وحدها لا تكفي

هذه النوايا الحسنة تتكرر كلما حاولت الشركات تحويل استراتيجيتها لأفكار ملموسة قابلة للتطبيق والقياس بحجة “أن ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته” ومن ذلك: الثقافة المؤسسية. حيث تضع الشركة بحسن نية مؤشر الثقافة مستهدفًا منشودًا، وذلك لخلق ثقافة عمل فعالة وداعمة وممكنة. غير أن هذه الغاية سرعان ما تتحول من السعي لبناء ثقافة عمل إيجابية، إلى مجرد رفع درجة المؤشر، لأن مصالح إدارات وقطاعات الشركة أصبحت مرهونة به!

مشكلة شائعة، ولكن الثقافة المؤسسية لا تحتمل

إذن المشكلة ليست محصورة بالثقافة المؤسسية، وإنما بأي مستهدف استراتيجي يتم تحويله لقيمة رقمية قابلة للقياس؛ ولكن برأيي أن الإضرار بمصداقية مؤشر الثقافة المؤسسية عواقبه وخيمة جدًا! كيف لا، والثقافة المؤسسية تعد أحد الممكنات لاستراتيجية المنظمة، وهي العامل الذي أشارت الدراسات مرارًا لأهميته في نجاح أي منظمة واستدامتها.

إن الثقافة ليست شيئًا واحدًا، بل مجموعة من الأشياء (قناعات، مسلمات، قيم، سلوكيات، عادات، إلخ..) التي إن كانت متوائمة مع توجهات المنظمة تساهم في تحقيق مستهدفاتها. كما أنها ليست أشياء سريعة التغيير، بل بطيئة ومتدرجة بطبيعتها وتتطلب عملًا دؤوبًا ومستمرًا لملاحظة التغيير.

ما أشرت له لا يعجب الكثير من التنفيذيين الذين يركزون على الأرقام ويهمهم العائد على استثماراتهم بشكل سريع ومباشر، لأنهم يغفلون ببساطة أن الظواهر النفسية والاجتماعية والتنظيمية عصية على الاختزال المادي/الكمي (Materialistic).

لا يمكن تغيير سلوك الناس سريعًا وبصورة جوهرية، خصوصًا إذا كان هذا السلوك سائدًا في مكانٍ ما. فالتغيير يتطلب فهم التحديات والمسببات لهذا السلوك ووضع خطط وتدخلات مبنية على بيانات، تجارب، أو ربط منطقي، ومن ثم تجربة هذه التدخلات وقياس مستوى تقدمها وفاعليتها في حل المسببات.

إن الترقب السريع للتغيير الثقافي قد ينم عن تحدي ثقافي بحد ذاته، ويشير لثقافة تركز على التوجه قصير المدى (short-term orientation)، والذي يعني أن هناك تركيزًا أكبر على النتائج السريعة—القريبة والحاضرة على حساب النتائج المستقبلية البعيدة.

النتائج المستقبلية البعيدة تتطلب تأنّيًا، واعتمادًا على مؤشرات ونظريات مجرّبة، ومستوى عالٍ من تقبّل الغموض وعدم اليقين. كل هذه الأمور لا تتوافق مع العقلية التي تهتم بالتنفيذ المباشر وتحقيق النجاحات السريعة.

الحاجة إلى التوازن بين المكاسب السريعة وتلك البعيدة مطلب أساسي، وترجيح كفة على الأخرى لن يساهم في تحقيق ثقافة صحية ولا حتى تحقيق مخرجات ذات كفاءة وفاعلية.

الحل: أداة تشخيصية لا أداة للمحاسبة

إن أفضل حل هو استخدام مؤشر الثقافة كأداة تشخيصية لتحديد التحديات وجوانب التحسين، لا أداة للمحاسبة أو المكافأة والعقاب. وفي المقابل، ينبغي السعي لفهم التحديات ومسبباتها ووضع مؤشرات على المبادرات، والبرامج، والسلوكيات، والإجراءات التي تساهم في التعامل مع مسببات هذه التحديات. يجب أن يكون القادة مسؤولين عن التنفيذ المباشر لخطط التحسين والتطوير ومحاسبين عن جودتها ومستوى التقدم فيها.

على سبيل المثال، عندما يتبين انخفاض محور التعاون، وتُظهر جلسات التركيز مع الموظفين أن المشكلة تكمن في عمل كل إدارة بمعزل عن الأخرى، وغياب الأهداف المشتركة، وعدم حث القادة وتحفيزهم للعمل الجماعي. عندها يمكن اقتراح عدد من التدخلات العملية وتحديد مؤشرات مناسبة لقياسها، مثل:

التدخل المقترح: وضع أهداف مشتركة بين مختلف الإدارات، وإطلاق مشاريع مشتركة بين الإدارات.
مؤشر القياس (KPI): نسبة المشاريع أو الأهداف المشتركة بين إدارتين أو أكثر من إجمالي المشاريع/الأهداف السنوية، ونسبة التقدم فيها.
الأثر المتوقع (ليس KPI على أحد): ارتفاع محور التعاون بمعدل 5 درجات على مقياس الثقافة المؤسسية خلال التسعة أشهر القادمة.

إن الإيمان بالجهود المبذولة لتحسين الثقافة المؤسسية والالتزام بالخطط المبنية على التحليل وفهم التحديات، ضرورة للنجاح والتعايش مع مستوى الغموض وعدم اليقين العالي الذي هو سمة أي مشروع يستهدف تحسين الثقافة المؤسسية.

الثقافة رحلة طويلة، لا قفزة كبيرة، وهذه هي الطريقة الأسلم لإدارتها والمحافظة على مصداقية مؤشرها.

American Psychological Association. (n.d.). Reactivity. In APA dictionary of psychology. Retrieved August 23, 2025, from https://dictionary.apa.org/reactivity

Albaraidi, O. (2024, September 14). Organizational culture: From understanding to measurement. Omar Albaraidi Blog. Retrieved August 23 2025, from https://omaralbaraidi.com/organizational_culture/

Harvard Business Review Arabic. (n.d.). فضيحة بنك ويلز فارغو (The Wells Fargo Scandal). In المفاهيم الإدارية. Retrieved August 23 2025, from https://hbrarabic.com/المفاهيم-الإدارية/فضيحة-بنك-ويلز-فارغو/

Harris, M., & Tayler, B. (2019, September–October). Don’t let metrics undermine your business. Harvard Business Review. Retrieved August 23 2025, from https://hbr.org/2019/09/dont-let-metrics-undermine-your-business

Gallup. (n.d.). Culture wins: How top companies attract top talent. Gallup. https://www.gallup.com/workplace/237368/culture-wins-attracting-top-candidates.aspx

Gallup. (n.d.). What is workplace culture? And why does it matter? Gallup. https://www.gallup.com/workplace/229832/culture.aspx

McKinsey & Company, People and Organizational Performance Practice.

Omar Albaraidi

مختص الثقافة التنظيمية وتجربة الموظف. حاصل على درجة الماجستير في علم النفس الصناعي والتنظيمي. تتركز اهتماماته في جلب مفاهيم ونظريات علم النفس إلى ميدان العمل لتطوير ورفع كفاءة المنظمات والعاملين فيها.. إقرأ المزيد

اترك تعليقاً